ذكرى فرانكو… إرث دكتاتورية إسبانيا في القرن العشرين

في العاشر من نوفمبر عام 1975، توفي الجنرال فرانسيسكو فرانكو، أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ إسبانيا الحديث.
كان فرانكو هو قائد انقلاب عسكري في عام 1936 ضد الحكومة الجمهورية، مما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية التي استمرت حتى عام 1939. في النهاية، خرج فرانكو منتصرًا ليحكم البلاد لمدة أربعة عقود كدكتاتور مطلق.
ومنذ وفاته، بقيت ذكراه محط جدل واسع في إسبانيا والعالم، ما بين أولئك الذين يرونه بطلًا أنقذ البلاد من الفوضى، وآخرين يرونه رمزًا للطغيان والظلم.
إذا كان الموت قد أنهى حياة فرانكو، فإن إرثه السياسي والعسكري والثقافي لا يزال حيًا في الذكريات الإسبانية.
بداية صعود فرانكو إلى السلطة
فرانسيسكو فرانكو وُلد في عام 1892 في مدينة فيرول شمال غرب إسبانيا. نشأ في بيئة عسكرية، حيث انضم إلى الأكاديمية العسكرية في سانتا كروز، وفي سن مبكرة أصبح ضابطًا في الجيش الإسباني. من خلال مسيرته العسكرية، تمكن من صعود السلم العسكري بسرعة بفضل كفاءته وشجاعته، خاصة في معركة الريف في المغرب.
ومع بداية الحرب الأهلية الإسبانية في عام 1936، قاد فرانكو مجموعة من الضباط العسكريين في انقلاب عسكري ضد الحكومة الجمهورية اليسارية المنتخبة، التي كانت تعاني من انقسامات داخلية وصراع مع القوى اليمينية واليسارية على حد سواء. ومن هنا بدأ فرانكو مسيرته نحو السيطرة المطلقة على إسبانيا.
الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)
شهدت إسبانيا صراعًا دمويًا بين الجمهوريين الذين دعموا الحكومة الديمقراطية، والقوميين الذين قادهم فرانكو. في البداية، لم يكن فرانكو الزعيم الوحيد للقوميين، لكن سرعان ما أثبت نفسه كقائد لا غنى عنه بفضل استراتيجيته العسكرية وقدرته على كسب دعم القوات الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية.
بالمقابل، كان الجمهوريون يواجهون معارضة شديدة من القوميين، وكذلك من انقسامات داخلية بين المجموعات اليسارية المختلفة. دعم الاتحاد السوفيتي وبعض الدول الديمقراطية للمجاهدين الجمهوريين لم يكن كافيًا لتغيير مسار الحرب، وبتاريخ 1 أبريل 1939، أعلن فرانكو انتصار القوميين.
فرانكو في الحكم: الدكتاتورية الوطنية (1939-1975)
بعد انتصاره في الحرب الأهلية، أسس فرانكو نظامًا دكتاتوريًا قام على وحدة وطنية أُحادية. كانت إسبانيا في ظل فرانكو دولة متشددة سياسيًا، حيث تم قمع الحريات المدنية، ومنع الحركات السياسية المعارضة، وحظر الأحزاب السياسية والنقابات العمالية. وقد تحكم الحزب الفاشي “الحزب الوطني” بالحياة السياسية والإعلامية في البلاد.
أحد أبرز جوانب حكم فرانكو كان “الانطلاقة الوطنية”، حيث أسس دولة تكون فيها الكنيسة الكاثوليكية جزءًا لا يتجزأ من السلطة، إلى جانب استحداثه للعديد من السياسات الاقتصادية التي عكست مفهومه عن القومية والفخر الوطني. وعلى الرغم من النقص في الحرية، فقد كان حكمه يشهد بعض الاستقرار في فترات معينة.
عزل إسبانيا عن العالم وتأثيرات الحرب العالمية الثانية
أثناء الحرب العالمية الثانية، تبنى فرانكو سياسة الحياد، ولكنه في الوقت نفسه أظهر بعض التعاطف مع محور القوى (ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية)، وهو ما جعله يواجه عزلة دولية كبيرة. على الرغم من ذلك، حافظت إسبانيا على استقرار داخلي نسبي خلال هذه الفترة، حيث تجنب فرانكو أن تكون إسبانيا مسرحًا للقتال، ولكن هذا العزل الدولي كان له تأثيرات سلبية طويلة المدى على الاقتصاد الإسباني، خاصة في فترة ما بعد الحرب.
الانتقال إلى العصر الحديث: وفاة فرانكو والتغيير السياسي في إسبانيا
على الرغم من قسوة النظام، كان هناك نوع من الاستقرار الذي ساد في إسبانيا خلال حكم فرانكو. ومع تقدم العمر ومرض فرانكو في السبعينيات، بدأ يتضح أن إسبانيا بحاجة إلى تغييرات سياسية لعدم إغراقها في الأزمات الداخلية. ورغم أن فرانكو كان قد عين خوان كارلوس الأول ملكًا في عام 1969 بهدف ضمان استمرارية النظام بعد وفاته، إلا أن الملك الجديد سرعان ما أصبح داعمًا للتغيير الديمقراطي بعد وفاة فرانكو في عام 1975.
مع وفاة فرانكو، بدأ الانتقال إلى الديمقراطية، والتي تكللت بإقرار الدستور الإسباني في عام 1978، الذي منح إسبانيا نظامًا ملكيًا دستوريًا وقام بتسوية العديد من الأزمات السياسية التي خلفها النظام الدكتاتوري. كما بدأ فتح الملفات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان التي حدثت في ظل حكم فرانكو، مثل قمع الحريات، الاعتقالات السياسية، وحروب الإبادة الثقافية ضد الفئات المعارضة.
الجدل حول إرث فرانكو في العصر الحديث
ظل إرث فرانكو محل جدل مستمر في إسبانيا حتى يومنا هذا. فبينما يعتبره البعض بطلًا في مواجهة الفوضى السياسية والاقتصادية في إسبانيا في فترتي ما بعد الحرب الأهلية، يرى آخرون أنه كان مستبدًا قمعيًا مسؤولًا عن آلاف من الضحايا في فترة حكمه الطويلة.
في السنوات الأخيرة، تم إحياء النقاش حول تمجيد فرانكو بعد أن جرى نقل رفات الجنرال من “وادي الشهداء”، وهو قبر جماعي ضخم بُني في فترة حكمه ليصبح نصبًا تذكاريًا لضحايا الحرب الأهلية الإسبانية. في عام 2019، أصدرت الحكومة الإسبانية قانونًا يقضي بإزالة هذه الرموز من الحياة العامة، في محاولة لتصحيح التاريخ وحل قضايا الماضي العميقة.
إرث صعب يظل حيًا
إن ذكرى فرانكو ليست مجرد ذكرى تاريخية؛ بل هي موضوع دائم للانقسام في إسبانيا، وتستمر في التأثير على السياسات والمجتمع الإسباني حتى يومنا هذا. فبينما يرفض البعض ذكرى هذا النظام ويرون أن إسبانيا قد تأخرت في تحقيق الديمقراطية الحقيقية بسبب إرثه، يرى آخرون أن حكمه كان ضروريًا في مرحلة تاريخية صعبة. مهما كانت الآراء، يظل فرانكو جزءًا لا يمكن تجاهله من تاريخ إسبانيا، وستظل ذِكرى حكمه تثير الجدل لعقود قادمة.