ثقافة

فيلم حرقة.. السينما في زمن القهر!

كتب من كان : عبد الستار ناجي


المشهد الختامي في فيلم حرقة للمخرج الأميركي المصري الأصل لطفي ناثان والذي تجري احداثه في تونس نتابع واحدا من افضل المشاهد التي قدمتها السينما العربية خلال السنوات الخمس الاخيرة حيث الشاب علي يقرر ان يحرق نفسه في وسط الشارع امام مبنى الولاية وتشتعل به النيران التي تلتهمه بالكامل بينما المارة يسيرون من امامه دون ان يحركوا اي ساكن في مشهد صادم قاس موجع يعري زمن القهر والالم .


ياخذنا فيلم – حرقة – الى حكاية الشاب علي الذي يعمل عند أحد موزعي البترول الذي يتم تهربيه من الحدود التونسية – الليبية . حتى اللحظة التي تحضر اليه احدى شقيقاته لتخبره بان والدهم قد توفي وعليه ان يحضر الى البيت ليجد نفسه امام مجموعة من الالتزامات لعل اقلها الوفاء بديون والدهم اتجاه احد البنوك الذي يهدد بأخذ منزلهم المرهون لدى البنك .


كمية من الضفوط اليومية التي تبدأ بالمعاناة في الوقوف طويلا لبيع البترول المهرب وأيضا دفع الاتوات الى رجال الشرطة في المنطقة التي يقف بها والتي تكاد تلتهم كل ما يكسب يوميا.


شاب بلا مستقبل يحاول ان يطور نفسه فيطلب من التاجر بان يقوم بنفسه بالذهاب للحدود ولكنه سرعان ما يجد نفسه مطاردا بعد ان يتم الهجوم عليهم من قبل شرطة الحدود .


مشاهد تذهب بنا الواحد تلو الآخر الى نهاية محتومة هي الانتحار او الانفجار وكلاهما مواجهة مع القدر يعيشها اليوم الكثير من دولنا العربية على وجه الخصوص . وهنا نشيد بالجرءة العالية للرقابة التونسية في منح الاذن لتصوير هذا العمل الذي يمارس لغة نقدية عالية من النادر ان يتم الموافقة عليها في اي بلد عربي سوى تونس ولربما لبنان او المغرب .


المواجهة والاتهام ضد الشرطة التونسية ليس بمستغرب عن السينما التونسية فقد شاهدناه من ذي قبل من خلال التونسية – كوثر بن هنية – في فيلمها – على كف عفريت – الذي بشر بميلاد مخرجة عالية الكعب وجدت طريقها لترسخ بصمتها في حرفتها وتعمد اسم بلادها في ارفع المحافل ولعل الترشيح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي خير دليل عن فيلمها – الرجل الذى باع جلده – .


الاداء العالي الذي قدمه الممثل التونسي ادم بيسا يؤكد باننا امام موهبة فنية عاشت الشخصية وفكت رموزها وشفراتها لذا راح ياسرنا وهو يذهب بعيدا في تحليل الشخصية ومعايشة عذابتها اليومية القاسية .


ادم قدم شخصية الشاب علي الذي كان عليه ان يتحمل مسؤوليات شقيقتيه لذا ترك لهما كل ما جمعه ليذهب الى قراره وكانه بذلك القرار لا يذهب الى الانتحار بقدر ما يفجر بركان من التحدي الا ان جثته ظلت تحترق في مشهد ساحر خلاب نفذ بعناية وتقنية سينمائية عالية ليقول بانه لا امل في كل شي .. حتى الحريق الذي خلف ذات يوم ربيعا عربيا كانت انطلاقته من تونس .

الا ان الحريق اليوم لم يعد قادرا على التحريك والتحفيز لأن الربيع تم اختطافه وأن الثورة لم تعد تجدي نفعا امام حالة من الفوضى والفساد والتلوث الذي يذكرنا بحكاية استهال بها الفيلم عنه بحيرة ظهرت ذات يوم فرح بها الجميع وراحوا يسبحوا حتى راح لون تلك البركة يتغير يوما بعد اخر لتصبح سوداء بعد الاكتشاف بان تلك المياة جاءت من منجم للفسفات لتصبح المياة سامة ملوثة لوثت الجميع .


في الفيلم ايضا بالاضافة الى ادم بيسا كل من سليمة معتوق واقبال حربي ونجيب العجوي . وعلينا ان نتوقف طويلا عند الحلول الموسيقية الذكية التي قدمها الموسيقار ايلي القصير وايضا مدير التصوير مكسميليان بيتنر الذي قدم مجموعة من الحلول البسيطة وأن ظل المحور دائما شخصية علي بشرودها الذي قدمه الرائع علي بيسا.


خلف فيلم – حرقة – للمخرج لطفي ناثان خبرة تونسية عريضة على صعيد المساهمة في السيناريو والحوار وفي هذا الجانب بالذات فان اللغة واللهجة المستخدمة لا يمكن أن تتحق الا بخبرات تونسية في الكتابة .


فيلم – حرقة – فيلم كبير وعميق وثري وقبل كل هذا فيلم ينتمي الى سينما زمن القهر والالم والانتحار .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى