ثقافة

السينما العربية في مهرجان كان 2023 تعزف على مقام الإنسان!

كان – عبد الستار ناجي


السينما العربية امام نقلة جديدة في مسيرتها عبر جيل من الرهانات الجديدة استطاع ان يحقق حضورة اللافت خلال اعمال الدورة الاخيرة لمهرجان كان السينمائي 2023 . ومن ابرز مميزات هذا الحضور هو العزف على مقام الانسان مقرونا باحترافية سينمائية عالية هي حصاد حتمي للدراسة المتخصصة والاشتغال وفق مناهج احترافية اعتبارا من كتابة النص الى تطويره مرورا بكافة المراحل الانتاجية ذات المواصفات الدولية التى تشرع الابواب صوب تعاونيات فنية دولية.


القراءة الاولي لمجموعة الاعمال السينمائية التى عرضت ضمن الاختيارات الرسمية للدورة السادسة والسبعين لمهرجان كان السينمائي تجعل نتوقف في المحطة الاولي امام فيلم – بنات الفة – للمخرجة التونسية كوثر بن هنية التى استطاعت عبر مزج بين التوثيق والابعاد الدرامية استحضار الظروف الموضوعية التى عصفت بحياة واسرة الفه الحمروني التى تظل طوال مسيرتها مشغولة برعاية بناتها الاربعة بعد انفضالها عن زوجها لتكشتف في لحظة شاردة عن الزمن ان اثنتين من بناتها اختفين للالتحاق بداعش في ليبيا لتبدا متاهة اخري ورحلة معقدة مركبة لا تزال خيوطها متشابكة بانتظار عودة البنات والاحفاد التى جاءوا كنتيجة لما سمي يومها بجهاد النكاح .


في فيلم – بنات الفه – كوثر بن هنية لا تبالغ في تركيب المشاهد بل تحرص على ان يكون المزج بين التوثيقية والبعد الدرامي هو الخلطة التى اشتغلت عليها حيث تتداعي الاحداث بكل من العفوية والبساطة التى تشبة الى حد قريب حياة تلك السيدة التى سرعان من عصفت بها الايام والزيجات المتتالية والعمل على حماية ورعاية بناتها الاربعة على خلفية الاحداث التى عاشتها تونس خلال السنوات الاخيرة اثر ثورة الياسمين .
قراءة متاملة للاحدث والمتغيرات وهيمنه التيارات الدينية والاحزاب وايضا انهيار المؤسسة الرسمية امام تلك المتغيرات العاصفة .


سينما كوثر بن هنية في فيلمها الاخير – بنات الفه – شفافة عميقة حادة قاسية مكتوبة بعناية . شخوصها هم مزيج بين الشخصيات الحقيقية واخري محترفة جاءت لمنح التجربة البعد الدرامي مثل هند صبري ونور القروي واشراق مطر بالاضافة الى مجد مستوره . ومعهم الفه الحمروني نفسها وبناتها .


سينما تشرع الابواب صوب الالم . صوب الحقيقة . صوب الانسان بكل مركبات التعب والهم اليومي وقسوة الضغوط التى تطحنه حتى نسمع قرقعة العظام والاحاسيس وهي تتهشم .


لا يمكن مقارنه هذا العمل ببقية افلام كوثر بن هنية لانه يمثل حالة متفردة رغم الاشتغال على ذات النهج الا انها هذة المرة تذهب بعيدا في ان تكون القضية هي الحاضر الاساسي بعيدا عن تاثيرات مفردات الحرفيات السينمائية التى رغم اثراءها العمل الا انها تسرق المشاهد من القضية المحورية وهنا القضية والانسان هما الحاضر الاساسي .
ونذهب الى فيلم السوداني – وداعا جوليا – للمخرج محمد كوردفاني والذى ياخذنا الى حكاية جوليا السودانية الجنوبية التى وجدت نفسها في لحظة سيريالية شاردة وحيدة مع طفلها بعد وفاة زوجها في ظروف هي حصاد حالة الفوضي التى يعيشها السوادن في هذة المرحلة من تاريخه .


وفي خط متوازي نتابح حكاية منى التى اضطرت لتغيير مسارها امام التظاهرات لتصطدام بطفل ( ابن جوليا ) وتبادر منى للهرب وليلحق بها والد الطفل ( زوج جوليا ) وحينما تصل منى الى منزلها تستنجد بزوجها الى يشهر سلاحة ويغتال زوج جوليا بحجة الدفاع عن النفس .


بعدها تشعر ( منى ) بالذنب وتبدا بالبحث عن اهل القتيل والعمل على تعويضهم حيث تلتقي مع جوليا وابنها وتدعوها للعمل والعيش في منزلها وتمضي العلاقة بود واحترام .. حتى نهاية الفيلم .


الا اننا امام فيلم يشرع الابواب امام نواقيس تظل اصداها تتردد بعد الخروج من الفيلم اننا امام مستقبل مظلم وامام حرب اهلية ولربما ابعد من كل ذلك حيث تقرر جوليا الهجرة الى الجنوب مع طفلها بينما تظل مني وسط تلك الظروف التى تحاول ان تغير جوانب منها بالذات فيما يخص زوجها المتزمت الشكاك الذي جعلها تبتعد عن الغناء والسيطرة عليها ..
فيلم يستحضر الالم الانساني على خلفية براكين المتغيرات التى تتفجر في السودان الهادي . ولكن خلف ذلك الهدوء مواقف عنصرية بين الشمال والجنوب وخلافات طاحنة مع بحث وتحليل لكم من القضايا وموضوعات الاجتماعية . حيث الانسان وظروفه الحياتية والمعيشية هي المحور والاساس .


وقد قدم لنا المخرج الشاب محمد كوردفاني قراءة متانية وشاهد مرسومة بعناية ومكتوبة باحترافية بعيدا عن كل التاثيرات المحيطة في السينما العربية والمصرية على وجه الخصوص ومن هنا اهمية هذة التجربة التى تعمد مخرج يمتلك ادواته وقبل كل هذا عشقة وشغفة للفن السابع .


وفي المحطة التالية نتوقف عند الفبلم المغربي – كذب ابيض – للمخرجة الشابة اسماء المدير التى تلتقط حكاية هامشية حيث تسأل جدتها ذات يوم لماذا لا يوجد لها صور وهي صغيرة لتقول جدتها ان الصور حرام ولتبدا تلك الصبية في استحضار الماضي بكل تفاصيلة من خلال بناء الحي بالكامل عبر الدمي والكارتون في اشتغال اخذ الكثير من الوقت والجهد . اشتغال وتحليل وذهاب الى اصعب اللحظات التى تمثلت بما سمي يومها ب – ثورة الخبز – .


مع اسماء المدير جميع افراد اسرتها بالذات الجدة التى مثلت محور اساسي لانها كانت المسيرة للاحداث في تلك المرحلة الزمنية ولا تزال هي المتحكم في اسرتها . فيما جسدت الدمي الكثير من الاحداث التى غيبت صورها وشخوصها . وهنا نتوقف طويلا امام مدير التصوير حاتم نيشي الذى قدم تجربة اضافية على صعيد الصورة لتحقق اضافية الى الابعاد الدرامية والتوثيقية في فيلم – كذب ابيض – .


الانسان حاضر نابض بكل ظروفه والمتغيرات التى تتحرك بخطوط متقاطعة مع مسيرتها والمه اليومي المعاش في تجربة اسماء المدير وهو ما يمثل استحضار عال وذكي وثري يجعلنا نؤكد باننا امام مخرجة شديدة الذكاء عميقة .
ونوجه البوصله صوب المخرج المغربي كمال الازرق في فيلمه – عصابات – حيث حكاية بسيطة اردها الارزق لتكون ذريعة لتمرير الشكل الذى يريدة وهنا نتابع حكاية اب مع ابنه يقودهما المصادفة لاغتيال شخص وعليهم طيلة الفبلم التخلص من جثه . حيث تجوب تلك الجثة انحاء الدار البيضاء على مدي ليلة كاملة .


جثة تبحث عن الخلاص . وثنائي اب خارج من السجن لتوه وابنه والعلاقة بين الاجيال وفي الحين ذاته تحليل لعالم الليل في كازابلانكا والعصابات التى تتحكم في الاحياء والمناطق وايضا خفايا واسرار تلك العوالم والمحطة التى يتوقف عندها هذا الثنائي في بحثه عن مكان لدفن الجثة .


المخرج الازرق قدم احترافية سينمائية تؤكد باننا امام مخرج عال الكعب يمتلك ادواته ويعي حرفته حيث جميع المشاهد مكتوبة باحترافية وعمق وثراء ولكل مشهد ايقاعة ومقدمة ووسطة ونهايته . وله ايضا اضاءته وتفاصيله الدقيقة التى عملت على تعميق الرحلة والمها وتعبها وارهاصاتها القاسية والمعقدة .


مع كمال الازرق مدير تصوير امين باردا التى منح الفيلم بعد اضافي عبر حلوله البصرية العالية وتنفيذة مشاهد الرحلة . وهكذا الامر مع ثنائي المونتاج هوليس بيلكو وستيفاني ميزكوسكي وموسيقي الراب الرائعة وحلوله السمعية التى شكلت عنصرا اساسيا في هذا الفيلم الذى يعصف بقضايا الانسان في مغامرة سينمائية ثرية وهامة .


المخرج الاردني امجد الرشيد في فيلمه – انشاء الله ولد – الذى ياخذنا الى حكاية سيدة توفي زوجها لتجد نفسها امام ورطة كبري اقلها تامين معيشتها واطفلتها وايضا المحافظة علي شقتها من اطماع شقيق زوجها والتشريعات الخاصة بالارث التى تتيح له واخوته المشاركة في الشقة كل ذلك على خلفية الظروف المعيشية الصعبة وتامين لقمة العيش والخلاص من تلك الظروف الضاغطة والمدمرة .


استطاع امجد الرشيد ان يكتب نصا جميلا خالي من التصريحات والمباشرة ثري بالشخوص والاحداث والاسقاطات الذكية التى تظل تناقش وتحلل وتدعو للحوار والتغيير .


ارملة لم يعد امامها مفر الا ان تكون حامل من زوجها وايضا يكون حملها ولد حتى تحصل على البيت لان الابن هو الوريث بينما الابنه يشاركها اهل الزوج الارث .


وعند امجد الرشيد الامر ليس مجرد حكاية ارملة وتشريعات وقوانين بل امر هو ابعد من كل ذلك انها منطقة للحوار والتغيير وحكاية لتكون ذريعة لتشريح المجتمع الاردني العربي بكل اطيافة الاسلامية والمسيحية
فيلم شديد الحساسية ذكي وعميق وقبل كل هذا يظل يعزف على ايقاع القضية بكل شفافية واحترافية .


وهو ما يؤكد باننا امام مخرج سيكون له كثير من الشان في مسيرة السينما الاردنية والعربية .
الانسان هو الشغل الشاغل والقضية الاكثر حضورا في الاعمال السينمائية العربية التى كانت ضمن الاختيارات الرسمية لمهرجان كان السينمائي 2023 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى